فصل: تفسير الآيات (135- 137):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: معالم التنزيل المشهور بـ «تفسير البغوي»



.تفسير الآيات (135- 137):

{قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (135) وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالأنْعَامِ نَصِيبًا فَقَالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا فَمَا كَانَ لِشُرَكَائِهِمْ فَلا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ وَمَا كَانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَى شُرَكَائِهِمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (136) وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلادِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ لِيُرْدُوهُمْ وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ (137)}
{قُلْ} يا محمد {يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ} قرأ أبو بكر عن عاصم {مَكَانَتِكُمْ} بالجمع حيث كان أي: على تمكنكم، قال عطاء: على حالاتكم التي أنتم عليها. قال الزجاج: اعملوا على ما أنتم عليه. يقال للرجل إذا أمر أن يثبت على حالة: على مكانتك يا فلان، أي: اثبت على ما أنت عليه، وهذا أمر وعيد على المبالغة يقول: قل لهم اعملوا على ما أنتم عاملون، {إِنِّي عَامِلٌ} ما أمرني به ربي عز وجل، {فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ} أي: الجنة، قرأ حمزة والكسائي: يكون بالياء هنا وفي القصص، وقرأ الآخرون بالتاء لتأنيث العاقبة، {إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ} قال ابن عباس: معناه لا يسعد من كفر بي وأشرك. قال الضحاك: لا يفوز.
قوله عز وجل: {وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالأنْعَامِ نَصِيبًا} الآية، كان المشركون يجعلون لله من حروثهم وأنعامهم وثمارهم وسائر أموالهم نصيبا، وللأوثان نصيبا فما جعلوه لله صرفوه إلى الضيفان والمساكين، وما جعلوه للأصنام أنفقوه على الأصنام وخدمها، فإن سقط شيء مما جعلوه لله تعالى في نصيب الأوثان تركوه وقالوا: إن الله غني عن هذا، وإن سقط شيء من نصيب الأصنام فيما جعلوه لله ردوه إلى الأوثان، وقالوا: إنها محتاجة، وكان إذا هلك أو انتقص شيء مما جعلوه لله لم يبالوا به، وإذا هلك أو انتقص شيء مما جعلوا للأصنام جبروه بما جعلوه لله، فذلك قوله تعالى: {وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ} خلق {مِنَ الْحَرْثِ وَالأنْعَامِ نَصِيبًا} وفيه اختصار مجازه: وجعلوا لله نصيبا ولشركائهم نصيبا.
{فَقَالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ} قرأ الكسائي {بِزُعْمهم} بضم الزاي، والباقون بفتحها، وهما لغتان، وهو القول من غير حقيقة، {وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا} يعني: الأوثان، {فَمَا كَانَ لِشُرَكَائِهِمْ فَلا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ وَمَا كَانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَى شُرَكَائِهِمْ} ومعناه: ما قلنا أنهم كانوا يتمون ما جعلوه للأوثان مما جعلوه لله، ولا يتمون ما جعلوه لله مما جعلوه للأوثان. وقال قتادة كانوا إذا أصابتهم سنة استعانوا بما جزَّءوا لله وأكلوا منه ووفروا ما جزَّءوا لشركائهم ولم يأكلوا منه شيئا {سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} أي: بئس ما يصنعون.
{وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} أي: كما زين لهم تحريم الحرث والأنعام كذلك زين لكثير من المشركين، {قَتْلَ أَوْلادِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ} قال مجاهد شركاؤهم، أي: شياطينهم زينوا وحسنوا لهم وأد البنات خيفة العيلة، سميت الشياطين شركاء لأنهم أطاعوهم في معصية الله وأضيف الشركاء إليهم لأنهم اتخذوها.
وقال الكلبي: شركاؤهم: سدنة آلهتهم الذين كانوا يزينون للكفار قتل الأولاد، فكان الرجل منهم يحلف لئن ولد له كذا غلاما لينحرن أحدهم كما حلف عبد المطلب على ابنه عبد الله.
وقرأ ابن عامر: {زين} بضم الزاي وكسر الياء، {قتل} رفع {أولادهم} نصب، {شركائهم} بالخفض على التقديم، كأنه قال: زين لكثير من المشركين قتل شركائهم أولادهم، فصل بين الفعل وفاعله بالمفعول به، وهم الأولاد، كما قال الشاعر:
فَزَجَّجْتُه مُتَمَكِّنًا ** زَجَّ القَلُوصِ أبي مَزَادَهْ

أي: زج أبي مزادة القلوص، فأضيف الفعل وهو القتل إلى الشركاء، وإن لم يتولوا ذلك لأنهم هم الذين زينوا ذلك ودعوا إليه، فكأنهم فعلوه. قوله عز وجل: {لِيُرْدُوهُمْ} ليهلكوهم، {وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ} ليخلطوا عليهم، {دِينَهُمْ} قال ابن عباس: ليدخلوا عليهم الشك في دينهم، وكانوا على دين إسماعيل فرجعوا عنه بلبس الشيطان، {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا فَعَلُوهُ} أي: لو شاء الله لعصمهم حتى ما فعلوا ذلك من تحريم الحرث والأنعام وقتل الأولاد، {فَذَرْهُمْ} يا محمد، {وَمَا يَفْتَرُونَ} يختلقون من الكذب، فإن الله تعالى لهم بالمرصاد.

.تفسير الآيات (138- 139):

{وَقَالُوا هَذِهِ أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لا يَطْعَمُهَا إِلا مَنْ نَشَاءُ بِزَعْمِهِمْ وَأَنْعَامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُهَا وَأَنْعَامٌ لا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا افْتِرَاءً عَلَيْهِ سَيَجْزِيهِمْ بِمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (138) وَقَالُوا مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الأنْعَامِ خَالِصَةٌ لِذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكَاءُ سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (139)}
{وَقَالُوا} يعني: المشركين، {هَذِهِ أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ} أي حرام، يعني: ما جعلوا لله ولآلهتهم من الحرث والأنعام على ما مضى ذكره. وقال مجاهد: يعني بالأنعام: البحيرة والسائبة والوصيلة والحام، {لا يَطْعَمُهَا إِلا مَنْ نَشَاءُ بِزَعْمِهِمْ} يعنون الرجال دون النساء، {وَأَنْعَامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُهَا} يعني: الحوامي كانوا لا يركبونها، {وَأَنْعَامٌ لا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا} أي: يذبحونها باسم الأصنام لا باسم الله، وقال أبو وائل: معناه لا يحجون عليها ولا يركبونها لفعل الخير، لأنه لما جرت العادة بذكر اسم الله على فعل الخير عبّر بذكر الله تعالى عن فعل الخير. {افْتِرَاءً عَلَيْهِ} يعني: أنهم يفعلون ذلك ويزعمون أن الله أمرهم به افتراء عليه {سَيَجْزِيهِمْ بِمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ}.
{وَقَالُوا مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الأنْعَامِ خَالِصَةٌ لِذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا} أي: نسائنا. قال ابن عباس وقتادة والشعبي: أراد أجنة البحائر والسوائب، فما ولد منها حيا فهو خالص للرجال دون النساء، وما ولد ميتا أكله الرجال والنساء جميعا، وأدخل الهاء في ال {خالصة} للتأكيد كالخاصة والعامة، كقولهم: نسابة وعلامة، وقال الفراء: أدخلت الهاء لتأنيث الأنعام لأن ما في بطونها مثلها فأنثت بتأنيثها. وقال الكسائي: خالص وخالصة واحد، مثل وعظ وموعظة.
{وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً} قرأ ابن عامر وأبو جعفر {تكن} بالتاء {مَيْتَةً} رفع، ذكر الفعل بعلامة التأنيث، لأن الميتة في اللفظ مؤنثة. وقرأ أبو بكر عن عاصم {تكن} بالتاء {مَيْتَةً} نصب، أي: وإن تكن الأجنة ميتة، وقرأ ابن كثير: {وَإِنْ يَكُنْ} بالياء {مَيْتَةً} رفع، لأن المراد بالميتة الميت، أي: وإن يقع ما في البطون ميتا، وقرأ الآخرون {وَإِنْ يَكُنْ} بالياء {مَيْتَةً} نصب، رده إلى {مَا} أي: وإن يكن ما في البطون ميتة، يدل عليه أنه قال: {فَهُمْ فِيهِ شُرَكَاءُ} ولم يقل فيها، وأراد أن الرجال والنساء فيه شركاء، {سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ} أي: بوصفهم، أو على وصفهم الكذب على الله تعالى: {إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ}.

.تفسير الآيات (140- 141):

{قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلادَهُمْ سَفَهًا بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرَّمُوا مَا رَزَقَهُمُ اللَّهُ افْتِرَاءً عَلَى اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ (140) وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفًا أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشَابِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (141)}
{قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلادَهُمْ} قرأ ابن عامر وابن كثير {قتلوا} بتشديد التاء على التكثير، وقرأ الآخرون بالتخفيف. {سَفَهًا} جهلا. {بِغَيْرِ عِلْمٍ} نزلت في ربيعة ومضر وبعض العرب من غيرهم، كانوا يدفنون البنات أحياء مخافة السبي والفقر، وكان بنو كنانة لا يفعلون ذلك.
{وَحَرَّمُوا مَا رَزَقَهُمُ اللَّهُ} يعني: البحيرة والسائبة والوصيلة والحام، {افْتِرَاءً عَلَى اللَّهِ} حيث قالوا: إن الله أمرهم بها، {قَدْ ضَلُّوا وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ}.
قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ} ابتدع. {جَنَّاتٍ} بساتين، {مَعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ} أي: مسموكات مرفوعات وغير مرفوعات، وقال ابن عباس: معروشات: ما انبسط على وجه الأرض وانتشر مما يعرش، مثل: الكرم والقرع والبطيخ وغيرها، وغير معروشات. ما قام على ساق وبسق، مثل النخل والزرع وسائر الأشجار.
وقال الضحاك: كلاهما، الكرم خاصة، منها ما عرش ومنها ما لم يعرش.
{وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ} أي: وأنشأ النخل والزرع، {مُخْتَلِفًا أُكُلُهُ} ثمره وطعمه منها الحلو والحامض والجيد والرديء، {وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشَابِهًا} في المنظر، {وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ} في المطعم مثل الرمانتين لونهما واحد وطعمهما مختلف، {كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ} هذا أمر إباحة.
{وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} قرأ أهل البصرة وابن عامر وعاصم {حَصَادِهِ} بفتح الحاء، وقرأ الآخرون بكسرها ومعناهما واحد، كالصِّرام والصَّرام والجَزاز والجِزاز.
واختلفوا في هذا الحق: فقال ابن عباس وطاووس والحسن وجابر بن زيد وسعيد بن المسيب: إنها الزكاة المفروضة من العشر ونصف العشر.
وقال علي بن الحسين وعطاء ومجاهد وحماد والحكم: هو حق في المال سوى الزكاة، أمر بإتيانه، لأن الآية مكية وفرضت الزكاة بالمدينة.
قال إبراهيم: هو الضغث. وقال الربيع: لقاط السنبل.
وقال مجاهد: كانوا يعلقون العذق عند الصرام فيأكل منه مَنْ مرَّ.
وقال يزيد بن الأصم: كان أهل المدينة إذا صرموا يجيئون بالعذق فيعلقونه في جانب المسجد، فيجيء المسكين فيضربه بعصاه فيسقط منه فيأخذه.
وقال سعيد بن جبير: كان هذا حقا يؤمر بإتيانه في ابتداء الإسلام فصار منسوخا بإيجاب العشر.
وقال مِقْسَم عن ابن عباس: نسخت الزكاة كل نفقة في القرآن.
{وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} قيل: أراد بالإسراف إعطاء الكل. قال ابن عباس في رواية الكلبي: إن ثابت بن قيس بن شماس صرم خمسمائة نخلة وقسمها في يوم واحد ولم يترك لأهله شيئا، فأنزل الله عز وجل هذه الآية.
قال السدي: لا تسرفوا أي لا تعطوا أموالكم فتقعدوا فقراء. قال الزجاج: على هذا إذا أعطى الإنسان كل ماله ولم يوصل إلى عياله شيئا فقد أسرف، لأنه قد جاء في الخبر: «ابدأ بمن تعول». وقال سعيد بن المسيب: معناه لا تمنعوا الصدقة. فتأويل الآية على هذا: لا تتجاوز الحد في البخل والإمساك حتى تمنعوا الواجب من الصدقة.
وقال مقاتل: لا تشركوا الأصنام في الحرث والأنعام.
وقال الزهري: لا تنفقوا في المعصية، وقال مجاهد: الإسراف ما قصرت به عن حق الله عز وجل، وقال: لو كان أبو قبيس ذهبا لرجل فأنفقه في طاعة الله لم يكن مسرفا ولو أنفق درهما أو مدا في معصية الله كان مسرفا. وقال إياس بن معاوية: ما جاوزت به أمر الله فهو سرف وإسراف. وروى ابن وهب عن أبي زيد. قال: الخطاب للسلاطين، يقول: لا تأخذوا فوق حقكم.

.تفسير الآيات (142- 143):

{وَمِنَ الأنْعَامِ حَمُولَةً وَفَرْشًا كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (142) ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الأنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الأنْثَيَيْنِ نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (143)}
قوله عز وجل: {وَمِنَ الأنْعَامِ} أي: وأنشأ من الأنعام، {حَمُولَةً} وهي كل ما يحمل عليها من الإبل، {وَفَرْشًا} وهي الصغار من الإبل التي لا تحمل. {كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ} لا تسلكوا طريقه وآثاره في تحريم الحرث والأنعام، {إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ}.
ثم بيّن الحمولة والفرش فقال: {ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ} نصبها على البدل من الحمولة والفرش، أي: وأنشأ من الأنعام ثمانية أزواج أصناف، {مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ} أي: الذكر والأنثى، فالذكر زوج والأنثى زوج، والعرب تسمي الواحد زوجا إذا كان لا ينفك عن الآخر، والضأن النعاج، وهي ذوات الصوف من الغنم، والواحد ضائن والأنثى ضائنة، والجمع ضوائن، {وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ} قرأ ابن كثير وابن عامر وأهل البصرة {من المعز} بفتح العين، والباقون بسكونها، والمعز والمعزى جمع لا واحد له من لفظه، وهي ذوات الشعر من الغنم، وجمع الماعز مَعِيْر، وجميع الماعزة مواعز، {قُلْ} يا محمد {آلذَّكَرَيْنِ حَرَّم} الله عليكم، يعني ذكر الضأن والمعز، {أَمِ الأنْثَيَيْنِ} يعني أنثى الضأن والمعز، {أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الأنْثَيَيْنِ} منهما، فإنها لا تشتمل إلا على ذكر أو أنثى، {نَبِّئُونِي} أخبروني {بِعِلْمٍ} قال الزجاج: فسِّروا ما حرمتم بعلم، {إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} أن الله تعالى حرم ذلك.

.تفسير الآيات (144- 145):

{وَمِنَ الإبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الأنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الأنْثَيَيْنِ أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ وَصَّاكُمُ اللَّهُ بِهَذَا فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (144) قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (145)}
{وَمِنَ الإبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الأنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الأنْثَيَيْنِ} وذلك أنهم كانوا يقولون: هذه أنعام وحرث حجر، وقالوا: ما في بطون هذه الأنعام خالصة لذكورنا ومحرم على أزواجنا، وحرموا البحيرة والسائبة والوصيلة والحام، وكانوا يحرمون بعضها على الرجال والنساء، وبعضها على النساء دون الرجال، فلما قام الإسلام وثبتت الأحكام جادلوا النبي صلى الله عليه وسلم، وكان خطيبهم مالك بن عوف أبو الأحوض الجشمي، فقال: يا محمد بلغنا أنك تحرم أشياء مما كان آباؤنا يفعلونه، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنكم قد حرمتم أصنافا من الغنم على غير أصل، وإنما خلق الله هذه الأزواج الثمانية للأكل والانتفاع بها، فمن أين جاء هذا التحريم؟ من قِبَل الذكر أم من قبل الأنثى»؟ فسكت مالك بن عوف وتحير فلم يتكلم. فلو قال جاء التحريم بسبب الذكور وجب أن يحرم جميع الذكور، وإن قال بسبب الأنوثة وجب أن يحرم جميع الإناث، وإن كان باشتمال الرحم عليه فينبغي أن يحرم الكل، لأن الرحم لا يشتمل إلا على ذكر أو أنثى، فأما تخصيص التحريم بالولد الخامس أو السابع أو البعض دون البعض فمن أين؟
ويروى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لمالك: «يا مالك: ما لك لا تتكلم؟ قال له مالك: بل تكلم وأسمع منك».
{أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ} حضورا {إِذْ وَصَّاكُمُ اللَّهُ بِهَذَا فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ} قيل: أراد به: عمرو بن لحي ومن جاء بعده على طريقته، {إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ}.
ثم بين أن التحريم والتحليل يكون بالوحي والتنزيل، فقال: {قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا} وروي أنهم قالوا: فما المحرم إذًا فنزل: {قُلْ} يا محمد {لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا} أي: شيئا محرما، {عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ} آكل يأكله، {إِلا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً} قرأ ابن عامر وأبو جعفر {تكون} بالتاء، {ميتة} رفع أي: إلا أن تقع ميتة، وقرأ ابن كثير وحمزة {تكون} بالتاء، {مَيْتَةً} نصب على تقدير اسم مؤنث، أي: إلا أن تكون النفس، أو: الجثة ميتة، وقرأ الباقون {يكون} بالياء {ميتة} نصب، يعني إلا أن يكون المطعوم ميتة، {أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا} أي: مهراقا سائلا قال ابن عباس: يريد ما خرج من الحيوان، وهن أحياء وما خرج من الأرواح وما يخرج من الأدواج عند الذبح، ولا يدخل فيه الكبد والطحال، لأنهما جامدان، وقد جاء الشرع بإباحتهما، ولا ما اختلط باللحم من الدم، لأنه غير سائل.
قال عمران بن حُدَيْر: سألت أبا مجلز عما يختلط باللحم من الدم، وعن القِدْر يُرى فيها حمرة الدم؟ فقال: لا بأس به، إنما نهى عن الدم المسفوح.
وقال إبراهيم: لا بأس بالدم في عرق أو مخ، إلا المسفوح الذي تعمد ذلك، وقال عكرمة: لولا هذه الآية لاتبع المسلمون من العروق ما يتبع اليهود.
{أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ} حرام، {أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ} وهو ما ذبح على غير اسم الله تعالى. فذهب بعض أهل العلم إلى أن التحريم مقصور على هذه الأشياء. يُروى ذلك عن عائشة وابن عباس قالوا: ويدخل في الميتة: المنخنقة والموقوذة، وما ذكر في أول سورة المائدة.
وأكثر العلماء على أن التحريم لا يختص بهذه الأشياء، والمحرم بنص الكتاب ما ذكر هنا.
ذلك معنى قوله تعالى: {قل لا أجد فيما أوحي إلي محرما}، وقد حرمت السنة أشياء يجب القول بها.
منها: ما أخبرنا إسماعيل بن عبد القاهر ثنا عبد الغافر بن محمد بن عيسى الجلودي ثنا إبراهيم بن محمد بن سفيان ثنا مسلم بن الحجاج، قال ثنا عبيد الله بن معاذ العنبري أخبرنا أبي أنا شعبة عن الحكم عن ميمون بن مهران عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: «نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كل ذي ناب من السباع، وكل ذي مخلب من الطير».
أخبرنا أبو الحسن السرخسي ثنا زاهر بن أحمد ثنا أبو إسحاق الهاشمي ثنا أبو مصعب عن مالك عن إسماعيل بن أبي حكيم عن عبيدة بن سفيان الحضرمي عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «أكل كل ذي ناب من السباع حرام».
والأصل عند الشافعي: أن ما لم يرد فيه نص تحريم أو تحليل، فإن كان مما أمر الشرع بقتله- كما قال: «خمس فواسق يقتلن في الحل والحرم» أو نهى عن قتله، كما روي أنه نهى عن قتل النحلة والنملة- فهو حرام، وما سوى ذلك فالمرجع فيه إلى الأغلب من عادات العرب، فما يأكله الأغلب منهم فهو حلال، وما لا يأكله الأغلب منهم فهو حرام، لأن الله تعالى خاطبهم بقوله: {قل أحل لكم الطيبات}، فثبت أن ما استطابوه فهو حلال.
{فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} أباح أكل هذه المحرمات عند الاضطرار في غير العدوان.